بقلم : غانم العـنّاز
الذكرى التسعون لاكتشاف حقل نفط كركوك العملاق
مقدمة
في خضم الاحداث المتلاحقة التي مرت بمدينة كركوك خلال الاسابيع القليلة الماضية من اجراء الاستفتاء في اقليم كردستان في 25 ايلول الماضي الذي شمل المدينة والاحداث الجسام التي تلته في الايام القليلة الماضية من شهر تشرين الاول الحالي الذي استطاعت القوات المسلحة العراقية فيها من استرداد مدينة كركوك والسيطرة علي حقول النفط القريبة منها ، فقد مرت بهدوء ذكرى عزيزة على ابناء اشعب العراقي بصورة عامة وعلى العاملين ومن عملوا في صناعة النفط العملاقة بصورة خاصة ، دون ان نسمع عنها الا وهي اكتشاف النفط في العراق.
نقول في خضم هذه الاحداث الجسام مرت الذكرى التسعون لاكتشاف النفط في العراق في حقل كركوك في 14 تشرين الاول/اكتوبر من عام 1927 الذي لعب ولا زال يلعب دورا مهما في تاريخ العراق السياسي والاقتصادي والحضاري.
لقد كان النفط نعمة من الله عظيمة بنت العراق الحديث عندما وضعت وارداته في ايد عراقية وطنية امينة كما اصبح بعد ذلك نقمة بيد ساسة جهلة وفاسدين نهبوا وارداته العظيمة واتوا بالغزاة الطامعين فيه ليعم الخراب والدمار الذي نشاهده في هذه الايام في جميع انحاء العراق.
الاستعداد لحفر الآبار
لقد كانت شركة النفط التركية (شركة نفط العراق لاحقا) خلال الاشهر الطويلة من المفاوضات في العشرينيات من القرن الماضي منهمكة في الاعمال الاستكشافية المكثفة لتحديد المواقع التي سيتم الحفر فيها بعد ان اقامت قاعدة عمل لها في منطقة سليمان بيك بالقرب من مدينة طوز خورماتو القريبة من كركوك. فقد تم خلال تاك الفترة استيراد ابراج الحفر والمعدات والمواد الكثيرة الاخرى اللازمة للمباشرة باعمال الحفر. كما تم استقدام الخبراء والمهندسين وغيرهم وتعيين الكتبة المهنيين والعمال المحليين وانشاء المكاتب والمخازن واماكن السكن والمطاعم وغيرها من الخدمات الضرورية لهم.
الاستعداد للمباشرة بحفر بئر كركوك رقم 1
اكتشاف حقل نفط كركوك
فقد تمت المباشرة بحفر البئر الاولى في العراق في منطقة بلكانة في 24 نيسان 1927 بحضور الملك فيصل الاول ليتبع ذلك المباشرة بالحفر في اربعة مواقع اخرى قبل ان يباشر بحفر البئر السادسة في منطقة بابا كركر القريبة من النار الازلية بالقرب من مدينة كركوك في 30 حزيران 1927.
استمر الحفر في بئر كركوك خلال اشهر الصيف والخريف دون توقف ليصل الى عمق 1521 قدما عندما توقف الحفر لانزال بطانة للبئر بقطر 10.75 عقدة وضخ الاسمنت لتثبيها في مكانها. استؤنفت اعمال الحفر في منتصف ليلة 13/14 من شهر اتشرين الاول/اكتوبر فلم يمض الا وقت قصير على ذلك الا وبدأ النفط بالتدفق في الفضاء بضوضاء مخيفة الى ارتفاع 140 قدما ليغطي اعلى البرج كما موضح في الصورة ادناه.
انفجار البئر الاولى في حقل كركوك في 14 تشرين الاول 1927
وصف انفجار البئر
لقد وصف الجيولوجي المسؤول عن عملية الحفر وليامسون ما حدث بعد انفجار البئر المفاجئ والهائل كما يلي :
((جرى الحفار بسرعة الى موقع المراجل لاطفاء النار هناك وعند الصباح وجدنا السماء مغطاة بسحابة من الغاز والرذاذ وكان النفط يجري كالنهر في وادي النفط القريب. وفي الساعة الثانية من بعد الظهر وجدنا انبوب الحفر الطويل والثقيل جدا يندفع من البئر منقذفا الى الاعلى خلال برج الحفر بضوضاء رهيبة.
مرت ثلاثة ايام قبل ان يتم غلق الصمام الرئيسي للبئر لنجد الاراضي التي حولنا مشبعة بالنفط بعمق يصل الى عدة عقد وان النسيم الذي يهب حولنا كان مشبع برذاذ النفط كذلك. اخبرنا الرجال الذين قدموا الينا بان زجاجات سياراتهم بدأت تغطى برذاذ النفط على بعد عشرة اميال من موقع البئر. لقد قام احد المهملين باشعال ثقابة على بعد نصف ميل من البئر ادت الى نشوب حريق رهيب في المنطقة المجاورة تم اطفاءه بسرعة بتغطيته بالتراب ليتم بعد ذلك تشديد الحراسة باستمرار لتفادي نشوب اي حريق في المستقبل.
لقد تم عمل سدود ترابية في وادي النفط لحصر النفط الجاري فيه ومنعه من التقدم لمسافات بعيدة ولو حدثت امطار في تلك الفترة لجرفت مياهها آلاف الاطنان من ذلك النفط في طريقها الى نهر دجلة لينتج عن ذلك كارثة بيئية رهيبة. نعم لقد كنا محظوظين جدا في تلك البئر))
النفط يجري كالنهر الصغير في وادي النفط في 14/10/1927
اما النفط المتدفق ورذاذه المنتشر في الفضاء والضوضاء الرهيبة التي رافقته فقد احدثت قلقا وخوفا شديدين بين اهالي مدينة كركوك فقد قال احدهم :
((بالرغم من ان النفط لم يكن غريبا علينا فقد قمنا بجمعه من التسربات في المنطقة منذ آلاف السنين الا ان اندفاعه العنيف والضوضاء الرهيبة التي رافقت ذلك اضافة الى الغازات السامة المنتشرة في الهواء قد جعلت بعض الناس يعتقدون بان ذلك كان عقابا من رب العالمين لكثرة ذنوبهم.))
لم يكن بالامكان غلق الصمام الرئيسي للبئر الا بعد مرور ثلاثة ايام من انفجارها اي في يوم 17 تشرين الاول لتتم بذلك السيطرة على تدفق النفط. لقد اثبت الفحوصات في الايام القليلة التي تلت ذلك بان النفط كان يتدفق بمعدل يقدر بحوالي 90,000 برميل باليوم ليغطى المنطقة الواسعة حول البئر بكاملها ويأخذ مجراه الى وادي النفط. هذا وقد تم غلق البئر بعد اكمال الفحوصات اللازمة في يوم 23 من ذلك الشهر بانتظار تطوير الحقل. لقد اثبتت تلك البئر بما لا يقبل الشك العثور على حقل عملاق متميز بكل معنى الكلمة.
هذا ومن الجدير بالذكر ان تلك البئر تقع على مسافة قصيرة لا تزيد عن بضع مئات من الامتار عن موقع النار الازلية الشهيرة التي كان يتسرب اليها الغاز عبر العصور من ذلك الحقل والتي كانت تدور حولها التكهنات والخرافات حتى ذلك الوقت.
اما اخبار الاكتشاف فقد اعتبر حدثا كبيرا تصدر الصفحات الاولى من الصحف العالمية والمحلية فقد قامت جريدة التلغراف اليريطانية بنشر مقالة مطولة من مراسلها في بغداد عن ذلك في يوم الاثنين 18 تشرين الثاني 1927 اقتطفنا منها ما يلي :
((- لقد اكتشفت شركة النفط التركية النفط في العراق. ففي الساعة الثالثة من صباح يوم 14 تشرين الاول وبدون اي سابق انذار تدفق النفط في الهواء بمعدل قدر بحوالي 5,000 طن كل 24 ساعة.
- لقد كانت هناك مؤشرات كثيرة تدل على وجود النفط في العراق فكان على الجيولوجيون الذين ارسلتهم شركة النفط التركية التحقق فيما اذا كان هناك كميات كبيرة منه تستوجب انشاء مصفى له او مد خط انابيب لتصديره الى البحر الابيض المتوسط. لقد اصبح مد خط الانابيب الآن ممكن التحقيق.
- ان هذا الاكتشاف ذو اهمية كبيرة للعراق من الناحية التجارية ويبشر بازدهار باهر للبلاد. فان العراق لن يحصل على اموال الريع فقط بل على فوائد كثيرة اخرى غير مباشرة. فقد نصت اتفاقية الامتياز على ان تكون هناك نسبة عالية من المستخدمين في اعمال الشركة من العراقيين مما سيخفف من حدة البطالة في البلاد.
- لقد كانت التمور تمثل المادة الرئيسية للصادرات العراقية غير ان هذه التجارة بالرغم من توقع استمرارها بالانتعاش عليها الان ان تقبل في احتلال المركز الثاني بعد النفط.))
اما شركة النفط التركية فقد قامت على اثر اكتشاف حقل كركوك بايقاف عمليات الحفر في بعض المواقع الاخرى وتحويل بعض ابراج الحفر منها الى حقل كركوك للاسراع في عملية تقييمه وتطويره. كما انها قامت بالتخطيط لتطوير الحقل بانشاء الطرق ومحطات ضخ المياه وتوليد الطاقة الكهربائية وبناء المكاتب والدور السكنية وغيرها وشراء المعدات اللازمة لبناء محطات عزل الغاز ومجمع تركيز النفط ومحطات الضخ وخزانات النفط العملاقة ومد خطوط انابيب التصدير وغيرها من المنشآت الحيوية الاخرى.
تطوير وانتاج حقل كركوك
يتكون الحقل من ثلاث قبب باسم بابا وافانا وخرمالا حيث يقع مكمن النفط الرئيسي على عمق حوالي 700 متر تحت سطح الارض ويتراوح سمك الطبقة الصخرية الكلسية التي تحتوي على النفط من 100 متراً الى 350 متراً. كان انتاج النفط في العشرين سنة الاولى من عمر الحقل يستخرج بصورة تلقائية تحت ضغط المكمن نفسه الذي بدأ بالتناقص تدريجياً مما تطلب المحافظة عليه وذلك بحقن الغاز في اول الامر ومن ثم بحقن الماء. فقد اقيمت لهذا الغرض محطة على نهر الزاب الصغير لتصفية الماء ومن ثم ضخه في المكمن بطاقة مليون برميل باليوم للتعويض عن حجم النفط المستخرج والمحافظة على الضغط في المكمن. اكمل المشروع في عام 1961 وتمت بذلك السيطرة على استقرار الضغط في المكمن.
يعتبر نفط كركوك من النوع الخفيف حيث تبلغ كثافته 36.7 بمقياس معهد النفط الامريكي ويحتوي علي نسبة 1.8% من الكبريت. اما نسبة الغاز المذاب في النفط فتتراوح ما بين 140 و 220 قدم مكعب لكل برميل والتي كانت تحرق في الماضي ولا زالت تحرق في بعض الحقول الاخرى في وقتنا الحاضر مما يشكل هدراً كبيراً لهذه الغازات الثمينة
يعتبر الحقل ذو انتاجية عالية حيث يبلغ معدل انتاج البئر الواحدة في قبتي بابا وآفانا 30,000 برميل باليوم اما في قبة خرمالا فيتراوح ما بين 3,000 الى 5,000 برميل باليوم.
بداية تصدير النفط العراقي
اكمل خط انابيب كركوك – طرابلس البالغ طوله 580 ميل (928 ) كم في 14 تموز 1934 وبوشر بتشغيله بضخ النفط فيه لتصل اول كمية منه الى ميناء طرابلس في نهاية تموز ليتم تصدير الشحنة الاولى منه والبالغة 14,500 طن في 3 آب الى ميناء لاهارف في فرنسا. لقد مثلت هذه الشحنة ظهور النفط العراقي في اسواق النفط العالمية لاول مرة في التاريخ ليستمر تصديره الى هذا اليوم.
اما خط انابيب كركوك – حيفا البالغ طوله 620 ميل (992 كم) فقد اكمل في 14 تشرين اول 1934 وبوشر بتشغيله بضخ النفط فيه لتصل اول كمية منه الى ميناء حيفا ليتم تصدير الشحنة الاولى منه والبالغة 13,000 طن في 27 تشرين اول الى ميناء لاهارف في فرنسا كذلك.
معدلات الانتاج
ارتفعت معدلات الانتاج من الحقل من 80 الف برميل باليوم في عام 1935 لتصل مليون برميل باليوم في اواخر العقد السادس لترتفع مرة اخرى الى 1.2 مليون برميل باليوم في منتصف العقد السابع لتستمر بالارتفاع تدريجياً لتصل طاقته الانتاجية مع حقلي باي حسن وجمبور الى ما يقارب 1.4 مليون برميل باليوم في اواخر العقد السابع
مجموع الانتاج والاحتيطي المتبقي.
بلغ مجموع ما انتج من هذا الحقل لغاية 1989 اكثر من 14 مليار برميل بينما يقدرمجموع ما انتج حتى الان بما يزيد على 15 مليار برميل.
اما الاحتياطي المتبقي فيقدر بحوالي 16 ملياربرميل.
مستقبل الحقل
يعتبر هذا الحقل العملاق من اقدم الحقول المنتجة في العالم فقد بدأ بالانتاج في عام 1935 ليستمر خلال ال 82 سنة الماضية الى يومنا هذا كما يتوقع له ان يستمر بالانتاج خلال السبعين سنة القادمة ليبلغ من العمر قرناً ونصف القرن من الزمن.
فليبارك الله فيه وفي من عمل وسوف يعمل فيه.
والله الموفق
غانم العناز
واتفورد – من ضواحي لندن
14 تشرين الثاني/اكتوبر 2017
المصدر - كتابى العراق وصناعة النفط والغاز في القرن العشرين الصادر باللغة الانكليزية عن دار نشر جامعة نوتنكهام البريطانية في ايار
838 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع